فصل: تفسير الآيات (148- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (148- 152):

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} يعني القول القبيح {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فقد اذن للمظلوم ان ينتصر بالدعاء على ظالمه {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لدعاء المظلوم {عَلِيماً} بعقاب الظالم، نظير قوله: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41] مجاهد: هذا في الضيف النازل إذا لم يضيف ومنع حقه أو اساءوا قراه فقد رخص الله له أن يذكر منه ماصنع به، وزعم أن ضيفاً نزل بقوم فأساءوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. والضيافة ثلاثة أيام ومافوق ذلك فهو صدقة.
وقوله: {من ظلم} من في محل النصب لأنه استثناء ليس من الأول، وإن شئت جعلت من رفعاً فيكون المعنى {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فيكون من بدلاً من معنى أحد والمعنى لايحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلاّ المظلوم، وقرئ إلاّ مَنْ ظلم بفتح الظاء واللام على معنى إن الظالم يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداءً، ويكون المعنى لكن الظلم الجهر بذلك ظلماً ومحل من في {مَن ظُلِمَ} النصب لأنه استثناء من الأول، وفيه وجه آخر: وهو أن يكون إلاّ من ظلم على معنى لكن الظالم جهروا له بالسوء من القول وهو بعد استثناءه من الأول، وموضعه نصب وهو وجه حسن.
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} يعني حسنة فتعمل بها كتبت له عشر وإن همّ بها ولم يعمل بها كتبت له حسنة واحدة {أَوْ تُخْفُوهُ} وقيل الخير ماصفى المال ومعناه ان تبدوا الصدقة والمعروف أو تصدّقوا بسرّ {أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء} عن ظلم {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} يعني فإنّ الله عز وجل أولى أن يتجاوز عنكم يوم القيامة عن الذنوب العظام.
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} الآية نزلت في اليهود وذلك إنهم آمنوا بموسى وعزير والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمّد والقرآن وذلك قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي ديناً من اليهودية والإسلام، قال الله تعالى: {أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} كلهم {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} يعني بين الرسل وهم المؤمنون، قالوا: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] كما علمهم الله، فقال: {قولوا آمَنَّا...} إلى قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} بايمانهم بالله وكتبه ورسله {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} كما كان منهم في الشرك.

.تفسير الآيات (153- 159):

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} الآية، وذلك إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً حقاً فأتنا بكتاب من السماء كما أتى به موسى فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} يعني السبعين الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل {فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} عياناً {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك} ولم نستأصلهم {وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} الآية.
يعني الآيات التسع {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} قتادة: كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل: إيليا، وقيل: أريحا، وقيل: هي لهم قربة.
{وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} أي لاتظلموا باصطيادكم الحيتان فيها {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} يعني العهد الذي أخذ الله عليهم في الصيد {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم ميثاقهم كقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159]، و{عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] و{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11] أي فبرحمة وعن قليل، وبجند ما هنالك.
{وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} تقدير الآية، فنقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتالهم وقولهم طبع الله على قلوبهم ولعنهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بمعنى من ممن كذب الرسل إلاّ من طبع الله على قلبه وإن من طبع الله على قلبه، فلا يؤمن أبداً، ثم قال تعالى {إِلاَّ قَلِيلاً} يعني عبد الله بن سلام، وقيل معناه: فلا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} حين رموها بالزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ عيسى عليه السلام استقبل رهطاً من اليهود وقالوا: الفاجر بن الفاجرة والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأُمّه فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم، وقال: اللهم أنت ربي وأنا عبدك من روح نفخت ولم أُتَّهم من تلقاء نفسي «اللهم فالعن من سبّني وسبَّ أُمّي».
فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبوّه وسبّوا أُمّه خنازير، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته آنفاً فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى فاجتمعوا عليه وجعلوا يسألونه فقال لهم: كفرتم وان الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته غضباً شديداً وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى جبرئيل، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها فظنوا إنه يقاتله فيها وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فلما خرج ظن إنه عيسى فقتلوه وصلبوه.
مقاتل: إن اليهود وكّلوا بعيسى رقيب عليه يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل، فجاء الملك فأخذ ضبعيه ورفعه إلى السماء فألقى الله تعالى على الرقيب شبه عيسى، فلما رأوه ظنوا انه عيسى فقتلوه وصلبوه، وكان يقول: أنا لست بعيسى، أنا فلان بن فلان، فلم يصدّقوه فقتلوه.
وقال السدّيّ: إنهم حبسوا عيسى مرّتين في بيت فدخل عليهم رجل منهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء من كوّة في البيت فدخلوا عليه وقتلوه بعيسى.
قتاده: ذكر لنا إن نبي الله عيسى بن مريم قال لأصحابه: أيّكم يقذف عليه شبهي فإنّه مقتول فقال رجل من القوم: أنا يا نبيّ الله فشبّه الرجل ومنع الله تعالى عيسى ورفعه إليه فلما رفعه الله إليه كساه الريش وألبسه النور وحطّ عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة يدور حول العرش وكان إنسياً ملكياً سمائياً أرضياً.
وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ثم رفعه الله إليه وهو أربع وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاثة سنين.
قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ} يعني اليهود {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ} فكذبهم الله تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ}.
الكلبي: إختلافهم فيه فاليهود قالت: نحن قتلناه وصلبناه. وقالت طائفة من النصارى: بل نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم: ماقتلوه هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إليه ونحن ننظر إليه وقال الذين لمّا قتل ططيانوس: ألم تروا إنه قتل وصلب فهذا إختلافهم وشكهم.
قال محمد بن مروان: ويقال أنّ الله وضع في شبه من عيسى على وجه ططيانوس ولم يلق عليه شبه جسده وخلقه، فلما قتلوه نظروا إليه، فقالوا: إن الوجه وجه عيسى وإنّما هو ططيانوس، وقد قيل إن الذي شبَّه لعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي وكان يقال له إيشوع بن مدين.
قال السدي: اختلافهم فيه أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، قال الله تعالى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي ما قتلوا عيسى يقيناً {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ}.
قال الفراء والقتيبي: والهاء في قوله: {إِلَيْهِ} إلى العلم يعني: وما قتلوا العلم يقيناً كما يقال قتلته عِلْماً وقتلته يقيناً للرأي والحديث.
وقال المقنع الكندي:
كذلك نخبر عنها الغانيات ** [...] فلكم يقيناً

ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وما قتلوه يقيناً يعني ما قتلوه ظنهم يقيناً {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي قوياً بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة {حَكِيماً} حكم عليهم باللعنة والغضب.
{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال الأستاذ الإمام: معناه ومامن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به وتلا قوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي ومامنا أحد إلاّ له مقام معلوم.
وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] المعنى: ومامنكم أحد إلاّ واردها. قال الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم ** يفضلها في حسب ومبسم

المعنى: ما في قومها أحد يفضلها، ثمّ حذف.
عن قتادة والربيع بن انس وابو مالك وابن زيد: هما راجعتان إلى عيسى، المعنى فإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلاّت أُمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة لله تعالى ويهلك الله في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأُسود مع الإبل، والنمور مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضاً ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وإقرأوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} عيسى بن مريم» رددها أبو هريرة ثلاث مرات.
عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: الهاء في قوله تعالى: {به} راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنَنَّ بعيسى قبل موته إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ ايمانه، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا: لايبقى يهودي ولاصاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت.
قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقال: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه.
يدل على صحة هذا التأويل، قراءة أُبيّ: قبل موتهم.
الكلبي: خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية. {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فقال شهر: خرج العطاء والحجاج يؤمئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة، فلما رآني الحجاج قال لي: ياشهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة، فقلت: أصلح الله الأمير أما ماذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيراً، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته، فقال: لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه، فقلت: إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه، قال: فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج، قال لي: هلم، فرجعت فقال: آية من كتاب الله تعالى ماقرأتها قط إلاّ اختلج في نفسي منها شيء، قلت: أصلح الله الأمير، ما هي؟ فقرأ هذه الآية {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فإني لأُوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالت: يا عدوّ الله أتاك عيسى ابن مريم عبداً نبياً فكذبت به، فيقول: إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لاينفعه إيمانه، ويؤتى بالنصراني فيقولون له: ياعدو الله أتاك عيسى عبد نبي فقلت: إنه الله وابن الله، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه.
قال شهر: فنظر إليّ الحجاج وقال: من حدثك بهذا الحديث؟ فقلت: محمد بن الحنفية، قال: وكان متكئاً فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال: أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها.
قال الكلبي: فقلت: يا شهر ما الذي أردت أن تقول: حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ماجاء من قبلهم، قال: أردت أن أُغيظه.
وقال بعضهم: الهاء في {به} راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي {موته} راجعة إلى الكتابي.
وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال: لايموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل الهاء في {به} راجعة إلى الله تعالى، وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننّ به قبل أن يموت عند المعاينة ولاينفعه إيمانه في وقت البأس {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} عيسى {عَلَيْهِمْ شَهِيداً} بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، نظير قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 116] وهو نبي شاهد على أُمّته، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية، وقال تعالى {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل: 84].

.تفسير الآيات (160- 166):

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}
{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم: إنا قتلنا المسيح.
ونظم الآية {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ} وبصدهم أي صرفهم انفسهم وغيرهم عن سبيل الله عن دين الله صداً كبيراً {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل} مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها، وقالوا هذه من عند الله، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، كقوله تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السحت} [المائدة: 63] عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئاً من الطيبات التي كانت حلالاً لهم، يدلّ عليه قوله تعالى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] و{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} [النحل: 118].
نكتة قال لهم: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} وقال لنا: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} [الأعراف: 157]، وقال: فلم يحرّم علينا شيئاً بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجوا أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال الله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لأنه جمع بينهما في الذكر.
نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب، فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ} يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون، في العلم {والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمقيمين الصلاة}.
واختلفوا في وجه انتصابه.
فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى} [المائدة: 69] وقوله تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] وقال بعض النحويين: هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء} [البقرة: 177] وقيل: نصب على فعل، تقديره: اعني المقيمين، على معنى: أذكر النازلين وهم الطيبون.
وقال قوم: موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم: معناه: لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقيل معناه: يؤمنون بما أُنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، وقال بعضهم: يؤمنون بما أُنزل إليك من الكتاب والمقيمين الصلاة.
ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون.
قوله تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} [النساء: 153] إلى قوله تعالى: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 165].
لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم؛ غضبوا وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء وأنزل {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} جعله الله تعالى ثاني المصطفى صلى الله عليه وسلم في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] والثاني في الوحي، فقال: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} فإن قيل: ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه؟ يقال: لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] وقيل: لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك.
وقيل: لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمراً.
وقيل: إنه كبير الأنبياء، وجعل معجزته في نفسه لأنه عُمِّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر.
وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً إعلاناً وإسراراً وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد إبنه فيقول له: يابني إحذر هذا فإنه ساحر كذاب. قال الله تعالى {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} [النجم: 52].
وقال من عتق عنه [......] يوم القيامة بعد محمد صلى الله عليه وسلم وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] فكما [......] القرآن فكذلك نوح عليه السلام صدر [......] وقال أول من يُدَعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال.
{وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} وهم أولاد يعقوب {وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش وحمزة {زَبُوراً} بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال: قد كتبنا صحفاً من بعده أي مكتوبة، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبوراً، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني اسرائيل فيقومون خلفه. ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس، الأعظم فالأعظم في فلاة عظيمة ويقوم الناس لهذا الجن الأعظم فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّاً لما سمعن منه، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لايحصيهم إلاّ الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك، فقيل له: ذاك انس الطاعة، وهذه وحشة المعصية.
وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك، لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود» قلت: أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته تحبيراً.
وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه قال: ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده.
وعن أبي عثمان النهدي وكان قد أدرك الجاهلية، قال: ما سمعت طنبوراً ولا صنجاً ولا مزماراً أحسن من صوت أبي موسى وإن كان لَيَؤُمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته حيث نزع حرف الصفة فالمعنى: كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل.
وقيل معناه وقصصنا عليك رسلاً نصب بعائد الذكر، وفي قراءة {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أُنزلت من بعد الأنعام {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} سمّى الله تعالى النبيين بهذين الإسمين، فقال: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة: 213] ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم، فقال: {مبشرين ومنذرين} ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الإسمين، فقال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [الفتح: 8-9] {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} فيقول: ما أرسلت إلينا رسولاً فنتبع وما أنزلت علينا كتاباً. وقال في آية أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحد أغير من الله تعالى» ولذلك {حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] وما أحسن إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه جل جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى لذلك ارسل الرسل، وأنزل الكتب {لكن الله يَشْهَدُ} الآية. اعلم أن الله تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد، فقال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] والثاني على العدل {وكفى بالله شَهِيداً} {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 28، 29] {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} [العنكبوت: 29] وقال تعالى {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] وقال: {فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81] والثالث على اعمال العباد فقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا} [المجادلة: 6] الآية وقال: {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} [يونس: 61] أي تفيضون فيه وقال: {الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98]، والرابع على جميع الأشياء فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] والخامس على كذب المنافقين قال تعالى: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] أي شهيد على القرآن {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية.
وقال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا أولاً عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لايعرفونك، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم تعرفون أني رسول الله». فقالوا: نعلم، فأنزل الله تعالى إن كذبوك وجحدوك لكن الله يشهد {بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وكفى بالله شَهِيداً}.